أسامة شكيب أحمد .
تاريخ التسجيل : 20/10/2010 عدد المشاركات : 1407 الدولة : الجنس : المزاج :
| موضوع: خمسون عاماً على رحيل بيرم التونسي... الثلاثاء يناير 25, 2011 7:46 pm | |
| خمسون عاماً على رحيل بيرم التونسي
تمر هذا الشهر الذكرى الخمسون لرحيل شاعر العامية الكبير بيرم التونسي... الذي غاب عن عالمنا في الثالث من كانون الثاني (يناير) عام 1962، بعد نصف قرن من رحيل بيرم التونسي... لا تبدو مناسبة رحيله مجرد ذكرى تستعاد... ففي زمن تهاوى فيه شعراء الأغنية العربية وغابوا، وفي زمن فقدت الكلمة معناها، والشعر براءته، والصدق جدواه، تتبدى لنا عبقرية بيرم التونسي لتقدم المثال النقيض لهذا كله.. فقد كان شاعرا من موهبة وعبقرية وعذوبة وكفاح... عاش حياة عاصفة، مغضوباً عليه من الطغاة والحكام.. فخرج يجوب الأقطار منفياً مطارداً شريداً... ليتذوق مرارة الفقر والجوع رغم ثرائه الروحي، وفرادة موهبته الفذة. كان شعره سجلا انتقادياً لأمراض المجتمع... هاجم فيه النفاق والتملق والاستغلال والانتهازية... لكن ذلك لم يمنعه من أن يكتب أرق الأغنيات التي ألهبت مشاعر الوجد والهوى في ليالي الشوق الطويلة. طفولة حزن وانغلاق في منزل على شاطئ مدينة الاسكندرية، ترتطم أمواج البحر بجدرانه، وقد يدفعها النزق أحياناً إلى دهاليزه فتعيث فيها فساداَ، ولد محمود محمد بيرم التونسي في الثالث من اذار/مارس عام 1893، وقد انطبعت طفولته بالحزن والانغلاق، لأن أهله كانوا يحرّمون عليه مغادرة البيت، خوفاً من أن تطويه أمواج البحر. وما بين الكتّاب ومسجد المرسي أبو العباس، تعلم بيرم القراءة والكتابة، فحفظ بعضاً من القرآن الكريم، ودرس مبادئ اللغة، إلا أن وفاة والده وهو في الرابعة عشرة من العمر، وعيشه في كنف زوج الأم، دفعت بيرم للانخراط في العمل المبكر، حيث عمل صبي بقال... ثم شارك في مشروع بقالة صغير، وكان أكثر ما يشغله قراءة جميع الكتب التي يلفون في أوراقها احتياجات المطرودائن. وها هنا... في هذه المهنة البسيطة، ولد بيرم التونسي الشاعر المتمرد... فقد وضعه عمله في البقالة أمام الاحتكاك بسلطة المجلس البلدي لمدينة الاسكندرية، الذي كان يذكر بوطأة الاحتلال بسبب وجود أجانب فيه، وجباية الضرائب بقسوة... فكتب أولى قصائده الساخرة عن هذا المجلس: لا تنكروا ما رأيتم من ضنى جسدي ولا فؤادي الذي أمسـكته بيدي بمحنتـي لم يصب الناس من أحد قد أوقع القلب في الأشـــجان والكمد هوى حبيب يســمى المجلس البلدي لم يحظ حكم الملك فؤاد الأول بشعبية كبيرة بين المصريين، فقد كان عنواناً للتبعية للإنكليز، وللقسوة في التعامل مع الشعب... وسرعان ما التقط بيرم التونسي إحساس الشارع، فكتب قصيدة عنيفة في هجاء الملك فؤاد، اعتبرت خروجاً صارخاً على تقاليد مديح السلطان، أو السكوت على ظلم الحكام... يقول فيها: ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الإنكليز يا فؤاد وقعدوك تمثل على العرش دور الملوك وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون. في هذا الوقت كان بيرم التونسي قد تعرف على سيد درويش... وكانت مصر تغني من كلمات بيرم وألحان سيد درويش (أنا المصري كريم العنصرين)، وهي على أبواب ثورة عام 1919. ولم تهدأ حرب بيرم التونسي الهجائية ضد الملك فؤاد الأول فقد أتبعها بقصيدة أخرى بعنوان (البامية الملوكي والقرع السلطاني) جلبت عليه عداوة المحتل الإنكليزي والقصر الملكي وطبقة الباشاوات.. ولهذا لم تعمر مجلة 'المسلة' التي أسسها عام 1919 في الإسكندرية، وأصدر العدد الثاني منها في القاهرة بعد انتقالها إليها، إذ أغلقت بعد صدور ثلاثة عشر عدد منها فقط، فعمل على تأسيس مجلته التالية 'الخازوق' التي لم يكن مصيرها بأحسن حالاً... بل إنها فتحت أمام بيرم التونسي باباً للشقاء والتشرد، إذ صدر قرار بترحيله باعتباره تونسيا لا يحمل الجنسية المصرية، وقامت القنصلية الفرنسية التي كانت تتولى شؤون الرعايا التونسيين في مصر، بإصدار أمر ترحيله إلى تونس في تشرين الاول/أكتوبر من عام 1919 بعد أن انتزع من بين أسرته وأولاده. سنوات النفي والتشرد على متن السفينة البحرية التي أقلته من مصر إلى مرسيليا كان بيرم التونسي يفكر بالبحث عن جذوره في تونس... ولهذا سرعان ما توجه إليها، ليتصل بعائلة البيارمة التي ينتسب إليها، ويتعرف على أهله في زمن عصيب كان يحتاج فيه للدعم والمساندة، غير أن إقامته في تونس لم تدم سوى بضعة أسابيع... ذلك أن أبناء عمومته من عائلة آل بيرم الذين كانوا منشغلين بعقاراتهم وأراضيهم أنكروه، الأمر الذي دفعه لأن يقول ملتاعاً في إحدى قصائده لاحقاً: الأولة آه والثانية آه والثالثة آه الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني والثالثة باريس وفي باريس جهلوني عاد بيرم التونسي إلى فرنسا ليختبر أقسى سنوات التشرد والجوع... وفي فرنسا امتهن مهناً وضيعة كثيرة، كي يسد رمقه، ويرسل ما يتيسر لأسرته الصغيرة التي تركها في مصر.. وقد تحدث بيرم التونسي عن السنوات السبع التي قضاها في فرنسا في عشرينيات القرن العشرين، في حوار نادر فقال: 'سافرت إلى فرنسا، وعشت هناك في ليون ومرسيليا سبع سنوات عجاف. وأخذت أراسل بعض الصحف المصرية سراً، ولكن تلك الصحف بحكم مواردها الضعيفة لم تكن تمنحني إلا القليل جداً مما لا يسد رمقاً... ولا يشفي من جوع، ولا يقف أمام غائلة البرد. ولهذا اضطررت إلى النزول للعمل اليدوي في المصانع، ووصلت إلى درجة عامل ممتاز في مسبك للحديد الصلب بباريس... وأشهد أن حياتي عاملا كانت أسعد من حياتي أديبا أو زجالا أو صحافيا... وأن الحديد كان ليناً طيعاً مترفقاً بي يعطي ولا يأخذ.. يستجيب ولا يعاند... بينما الشعر والأدب والصحافة كانت جاحدة جامدة مقترة، فقد كنت أتقاضى راتبي مرة كل أسبوع وإذا ما أجدت تأتيني العلاوة بلا إلحاح، في حين كانت الصحف المصرية ترسل لي جنيهاً واحداً لا غير كل ثلاثة شهور... ولم يكن يؤرقني في المنفى غير صورة ابني الذي تركته في الخامسة وابنتي وكانت لم تزل في الثالثة... وكنت قد غاردتهما على عجل من دون أن أتمتع بهما في أحضاني... ولم يكن هناك من يرعاهما في غيبتي سوى جدتهما العجوز المحطمة). وفي عام 1932 وقعت فرنسا في أزمة اقتصادية خانقة، قررت على إثرها إبعاد العمال الأجانب لديها، فأبعد بيرم من فرنسا إلى تونس... وهناك كانت له محطة أخرى حين مارس النشاط الصحافي في جريدة 'الزمان' كما حصل على ترخيص لإصدار مجلة 'الشباب'. بيرم في دمشق قضى بيرم في تونس خمس سنوات بين عامي 1932-1937 ولسبب غير مفهوم قرر مغادرتها وقصد هذه المرة سورية، التي عاش فيها متخفياً... وأخذ يراسل الصحف المصرية من هناك... وفجأة تقبض السلطات الفرنسية عليه ويصدر قرار بترحيله من دمشق إلى فرنسا مجدداً.. وفي الطريق البحري الطويل الذي طالما ذاق مرارة دواره وغربة موانئه... تتوقف السفينة في ميناء بورسعيد المصري، فيقرر بيرم في لحظة اشتياق جارفة الهرب من السفينة، ويسجل حدث عودته إلى مصر بزجل يأتي فيه بعذوبة آسرة على تفاصيل إقامته في دمشق، التي من سوء حظه أن سكن خارجها على سفح قاسيون في زمن كان منطقة مقفرة لا تلائم وحشة شاعر لوعته الغربة، لكن رغم ذلك كان بيرم يعتز بنسب دمشق الأموي، حتى وهو يعلن اشتياقه وحنينه إلى مصر، فيقول: غلبت أقطع تذاكر وشــــــــــبعت يا رب غربة بين الشـــــطوط والبواخر ومن بلادنا لأوروبا وقلت ع الشام أســـــــــافر يمكن ألاقيلي تربة فيها أجاور معاوية... وأكون ف حماية أميــة جاورت قاسيون وجيرته توحش ولافيهش حاجة وعزرائيل انتظرته ماجاش وجاني الخواجــــة نافخ وسايق إمارته... وقاللي شوف السماجة البر تحت انتدابنا... اخرج ما هياش وســــيه وخرج بيرم التونسي من دمشق التي كانت مجاورة قبر معاوية بن أبي سفيان، واحدة من مزايا الإقامة فيها في اعتقاده ووجدانه المؤمن... ونزل بيرم إلى القاهرة عام 1938، فنشرت جريدة 'الأهرام' زجلياته التي أعلن فيها عودته متسللاً، وقد أضاف إليها بعض الأبيات التي تمدح الملك فاروق الذي كانت قد تولى العرش... كي يغض الطرف عن وجوده في مصر، فيكون له ما أراد، ويكون ذلك فاتحة عودته لممارسة نشاطه الأدبي والفني بقوة، وخصوصاً بتعاونه مع كبار المطربين أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. في أربعينيات القرن العشرين كان لبيرم التونسي إسهام من نوع خاص ومميز في السينما المصرية، فقد أسهم في كتابة الحوار الدرامي للعديد من الأفلام، حيث شارك عام 1942 في كتابة حوار وأغاني فيلم (عايدة) للمخرج أحمد بدرخان، والمستوحى من أوبرا عايدة لفيردي، وفي عام 1945 قام بكتابة حوار وأغاني فيلم (سلامة) الذي غنت فيه أم كلثوم تسع أغنيات كلها من كلمات بيرم التونسي.. كما استعان به أكثر من مخرج لكتابة حوارات الأفلام البدوية كفيلم (رابحة) عام 1943، و(عنترة وعبلة) لنيازي مصطفى عام 1945، و(مغامرات عنترة وعبلة) لصلاح أبو سيف عام 1949.. ويمكن القول ان حوارات بيرم السينمائية، جاءت نسيجاً مختلفاً، اجتمعت فيه الرقة مع السخرية العذبة والذكاء اللماح. بيرم وثورة يوليو: الحب كده في الثالث والعشرين من تموز/ يوليو عام 1952، أعلن تنظيم الضباط الأحرار قيام ثورة يوليو، التي أنهت حكم الملكية في مصر. وكعادة أي ثورة يقوم بها ضباط عسكريون، يصنفون الناس تصنيفاً قائماً على الولاء الأعمى، ويحاسبونهم على مواقفهم السابقة في عهود سابقة، فقد خلق حب بيرم التونسي للملك فاروق، حالة جفاء بينه وبين الثورة في البداية... إلا أن تاريخ بيرم الطويل والصادق في مقارعة الملكية وهجاء الباشاوات، الذي لم يأخذه جهابذة الثورة بعين الاعتبار، قربه تلقائياً من روح الثورة فيما بعد.. وفي عام 1954، كان بيرم التونسي قد أنهى آخر فصول معاناته بحصوله على الجنسية المصرية، وهو في العقد السادس من العمر... كما قام الزعيم جمال عبد الناصر بمنحه وسام الفنون والآداب عام 1960. عرف بيرم التونسي في السنوات الأخيرة من حياته، الحياة الحرة الكريمة المستقرة التي طالما حلم بها... ورغم ذيوع شهرته وانتشار أعماله وأشعاره وأغانيه، إلا أنه رفض كل المغريات التي قدمت له للانتقال من منزله المتواضع في حي السيدة زينب الشعبي، الذي ظل يقطن فيه حتى وفاته عن ثمانية وستين عاماً، في الخامس من كانون الثاني/ يناير عام 1961... بعد أن أثقل عليه مرض الربو... وقد كانت أغنية (هو صحيح الهوى غلاب) آخر ما كتب للسيدة أم كلثوم قبل رحيله، التي وقفت لتنعيه على الهواء مباشرة في حفلتها الشهرية وقد آلمها رحيله... فيما كانت أغنية (القلب يعشق كل جميل) التي غنتها بعد رحيله بأكثر من عشر سنوات... آخر ما قدمته من أشعاره بصوتها... وهي واحدة من أرق وأرقى الأغنيات التي تغنت برحلة الحج إلى الديار المقدسة، عبر اختلاجات صوفية لامس فيها بيرم روحانية المكان وصفاء المشاعر، وفرحة الإحساس بنيل المنى وطلب الغفران. شاعر الحب الذي لم يذقه دخل بيرم التاريخ بأزجاله الشعبية التي ملأت الأسماع والقلوب... وإلى جانب قصائده الغزلية، فإن ديوانه يبدو سجلا انتقاديا جريئا لكافة مظاهر الخلل الاجتماعي سياسياً واجتماعياً وحتى دينياً... إلا أن الغريب والمفاجئ في حياة وفن بيرم التونسي أن أشعاره الغزلية الرائعة التي صورت مشاعر الحب وآلامه، واختزلت حالات العشق أدق اختزال، كانت صادرة عن قلب لم يذق طعم الحب قط، ولم يعش تقلباته... وقد قالها بيرم في حوار خاص معه، فكانت كلماته الطريفة أبلغ رثاء لحالته العاطفية الحزينة: (لم أعرف الحب في حياتي... وأذكر أن المرأة لم تؤثر في حياتي بالمعنى المفهوم... فقد تزوجت اثنتين وهما أميتان جاهلتان تدفعان أسعد الشعراء إلى نظم الملاحم الحزينة واللطم والبكاء والسخط على الدنيا وما فيها... كانت سامحهما الله تقولان للذكاء قم لنقعد مطرحك، وللوحي فز روح إلعب بعيد عن بيتنا هناك). ويبدو أن من عمق هذا الجفاف العاطفي الذي طبع حياته الزوجية، كان بيرم التونسي يعيش فقداناً عوضه بالشعر... فقداناً يكبر فيه الإحساس بالألم فيكبر به الشعر ويتلون بأعذب المشاعر وأصدقها، فيكتب ويقول ويشدو صوت أم كلثوم: السعد وعد يا عين والاسم نظرة عين وأنا وانت روح مغرمة كان حظها من السما واتجمعوا القلبين ولم يجتمع قلب بيرم مع أي قلب يخفق له إلا في الأغنيات... فقد كان (الهوى غلاب) في طبع الشاعر وألمه... ورحم الله بيرم التونسي بعد نصف قرن على رحيله فكم يبدو حاضراً معنا اليوم في مسيرته المعذبة ونغمه الأصيل. | |
|